القدس, 20 فبراير 2014 (إيرين)
يُعد الاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة واحداً من مصادر المساعدات الإنسانية والاقتصادية والسياسية الأجنبية الأكثر موثوقية في الأرض الفلسطينية المحتلة، حيث قدم 426 مليون يورو (575 مليون دولار) في عام 2013 وحده.وفي عام 2011، بلغ إجمالي المساعدات الإنمائية الخارجية المقدمة إلى الأرض الفلسطينية المحتلة 2.5 مليار دولار، وفقاً لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
ويركز جزء كبير من هذه المساعدات المقدمة إلى الشعب الفلسطيني على هدف واحد طويل المدى، بحسب مسؤولين في الاتحاد الأوروبي، وهو بناء مؤسسات دولة فلسطينية ديمقراطية مستقلة وقابلة للحياة في المستقبل، تعيش جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل في سلام وأمن.
ولكن نظراً لإحراز تقدم محدود حتى الآن في محادثات السلام الحالية التي ترعاها الولايات المتحدة وفي السعي لتحقيق الهدف الأكبر، وهو إقامة دولة فلسطينية، بدأت بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي يسيطر على تفكيرها التقشف تتساءل عما إذا كان إنفاق المساعدات يتم بشكل حكيم، بينما الأزمات الإنسانية في سوريا ومالي بحاجة إلى قدر أكبر من الأموال.
وفي تصريح لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، قالت كارولين دو بليسي، أستاذة العلوم السياسية الفرنسية المتخصصة في سياسة الاتحاد الأوروبي تجاه حل الدولتين: "حتى الآن لا توجد دولة فلسطينية. والموضوع الرئيسي هو: ما الذي نقوم بتمويله هنا؟ هل نساعد إسرائيل على مواصلة الاحتلال، أم أننا في الواقع نساعد الفلسطينيين على بناء الاستقلال؟"
وأضافت أن "الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي اليوم على دراية أكبر من ذي قبل بأن مساعداتها لم تجعل إقامة دولة فلسطينية مستقلة أمراً ممكناً. ويحاول الاتحاد الأوروبي الآن التوصل إلى أفضل استراتيجية ممكنة. إن الدول الاعضاء بحاجة إلى إظهار أن سياستها فعالة وتحقق أهدافها. ولكن إذا كان الحل الرئيسي لا يزال هو حل الدولتين، ونحن في واقع الأمر لا نسير في هذا الاتجاه، فإن هذه السياسة ليست مستدامة ولا يمكن أن تستمر إلى الأبد".
العصا والجزرة
ويبدو من غير المرجح في الوقت الراهن أن يحدث انخفاض كبير في مساعدات الاتحاد الأوروبي، لأنه قد يكون لمثل هذه الخطوة عواقب وخيمة على الاقتصاد الفلسطيني وسبل عيش عشرات الآلاف من الأسر.
"سيكون هناك ثمن ينبغي دفعه إذا تعثرت هذه المفاوضات،" كما أكد لارس فابورغ أندرسن، سفير الاتحاد الأوروبي إلى إسرائيل، في أواخر يناير الماضي. وفي ديسمبر 2013، نقلت صحيفة هآرتس الإسرائيلية عن مسؤول في الاتحاد الأوروبي قوله أن الاتحاد الأوروبي قد يقطع المساعدات المالية للسلطة الفلسطينية إذا فشلت محادثات السلام، في حين "اقترح بعض الناس إعطاء المال إلى بلدان أخرى، مثل سوريا ومالي وغيرها من الأماكن في مختلف أنحاء العالم".
من ناحية أخرى، يقدم وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي عروضاً لم يسبق لها مثيل تشمل مجموعة كبيرة جداً من الحوافز التي تهدف إلى تشجيع الطرفين على وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق السلام.
"تهدف هذه الحوافز إلى تعزيز ازدهار كل من الإسرائيليين والفلسطينيين من خلال زيادة فرص الوصول إلى الأسواق الأوروبية، وتسهيل التجارة والاستثمار وتعميق العلاقات التجارية والثقافية،" كما أشار جون غات-راتر، ممثل الاتحاد الأوروبي خلال حوار مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، مضيفاً أن "نهجنا في هذه المرحلة قائم على تشجيع الطرفين على اغتنام هذه الفرصة الفريدة التي تقدمها مفاوضات السلام".
في السياق نفسه، قال أوفر زالزبرغ، المحلل البارز في مجموعة الأزمات الدولية، في تصريح لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين): "على الرغم من إجهاد الجهات المانحة في أوروبا، لن نرى سوى تخفيض تدريجي محدود - بنسبة 10 بالمائة سنوياً، على سبيل المثال - في المساعدات الأوروبية، إذا فشلت المفاوضات لأن الزعماء الأوروبيين لا يريدون التسبب في عدم الاستقرار أو في أزمة إنسانية كبيرة".
بناء الدولة القادمة
ومن الجدير بالذكر أن مبلغ 426 مليون يورو الذي قدمه الاتحاد الأوروبي للفلسطينيين في عام 2013، كان يشمل 168 مليون يورو مقدمة كدعم مالي مباشر للسلطة الفلسطينية في إطار ما يسمى الآلية الفلسطينية الأوروبية لإدارة المعونة الاجتماعية الاقتصادية (آلية بيغاس).
وتساعد آلية بيغاس السلطة الفلسطينية على تغطية نفقاتها المتكررة من خلال دفع الرواتب والمعاشات والعلاوات الاجتماعية للناس الذين يعانون من فقر مدقع، وذلك من خلال دعم الخدمات العامة الأساسية وتنشيط القطاع الخاص عن طريق إصلاح السياسات وبناء المؤسسات وتعزيز العلاقات بين المؤسسات الفلسطينية ونظيراتها الأوروبية.
ويتم تحويل الأموال مباشرة إلى الأفراد المستفيدين مثل نبيلة التي تبلغ من العمر 55 عاماً في مخيم قدورة للاجئين. وفي حوار مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) داخل مكتب وزارة الشؤون الاجتماعية التابعة للسلطة الفلسطينية بمدينة رام الله، قالت نبيلة: "أحصل على 750 شيكل [210 دولارات] كل ثلاثة أشهر. لدي ابن معاق، وقد توفي زوجي منذ 10 أعوام، فكيف يمكنني الاستمرار على هذا الحال؟"
وشكت قائلة: "هناك فقر ونحن تعبنا من هذا الوضع،" مضيفة أن القيود المفروضة على الحركة (الناجمة، على سبيل المثال، عن بناء الجدار العازل وإقامة العديد من نقاط التفتيش الإسرائيلية لأسباب أمنية مزعومة) تسلط الضوء على مشكلة أكبر لن تفلح المعونة في حلها. "كيف تريد أن تحل هذه المشكلة؟ لماذا يتعين علينا أن نعيش في هذا الوضع البائس؟"
وبالإضافة إلى الدعم المالي المباشر، يتم توفير المعونة الإنسانية من خلال دائرة المساعدات الإنسانية والحماية المدنية (إيكو) التابعة للمفوضية الأوروبية، التي أنفقت 35 مليون يورو في عام 2013 على مجالات مثل تنسيق الشؤون الإنسانية والمساعدة القانونية والاستجابة الطارئة لعمليات الهدم والإخلاء.
دعم الوضع الراهن
وتواجه المعونة المقدمة من قبل الاتحاد الأوروبي نفس التحديات التي تواجهها منظمات الإغاثة غير الحكومية - وهي أن الدعم الذي تقدمه قد يلعب دوراً سياسياً من دون قصد، عن طريق المساعدة في دعم الوضع الراهن، وتوفير خدمات دعم الحياة التي ينبغي في الوضع الطبيعي أن تقدمها إسرائيل، بوصفها القوة المحتلة.
وفي هذا الصدد أشارت كارولين دو بليسي إلى أن "التمويل الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي هو تمويل استراتيجي، وهدفه الرئيسي هو الحيلولة دون حدوث عدم استقرار. وبالتالي، فإنه يخشى انهيار السلطة الفلسطينية".
من جانبه، يرى سامي أبو روزا، المستشار الاقتصادي السابق للرئيس الفلسطيني، أن نظام التبعية هذا له مذاق سياسي مرير.
وأضاف خلال حديث مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) في وزارة التعليم الفلسطينية التي يعمل بها حالياً، أنك "إذا حيدت حسن النية الذي يدفع إلى تقديم هذه الأموال، ستجد أن المعونة هي بديل لعدم وجود علاج حقيقي." وأوضح أن نهج الاتحاد الأوروبي في حل الصراع هو جزء من توجه أكبر يسميه "اقتصاديات السلام" (peaceconomics)، أو تغذية فكرة وهمية مفادها أن بناء المؤسسات وتقديم المساعدات الاقتصادية يمكن أن يساهم في تحقيق تقدم حقيقي، في حين يتم تهميش الأسباب السياسية الفعلية وراء هذا الوضع الصعب فتظل بلا حل.
موقف "ينم عن استعلاء"
وقال أيضاً أن "موقف الاتحاد الأوروبي تجاه الفلسطينيين ينم عن استعلاء، كما لو كان المال هو الشيء الوحيد الذي يحتاج إليه الفلسطينيون،" مضيفاً أنهم "يستبدلون الحلول الحقيقية بالمساعدات الاقتصادية، ويقيمون ستاراً من الدخان حول المشاكل الحقيقية".
وأوضح أن "الفلسطينيين يعرفون أن أي أموال تأتي إلى فلسطين هي أموال سياسية، ولكنهم يعرفون أيضاً أن العالم لن يتوقف عن دفع المال للفلسطينيين طالما ظلوا تحت الاحتلال. هذا هو النوع الغريب من السلام الذي يعيش في ظله الفلسطينيون".
وفي محاولة لتقليل الاعتماد السياسي على المساعدات، نفذت وزارة التربية والتعليم آلية جديدة، وهي اتفاقية التمويل المشترك المستمرة منذ ثلاث سنوات؛ حيث تصب أموال المساعدات التي تتدفق من والمؤسسة الائتمانية الألمانية لإعادة الإعمار KfW، وفنلندا وأيرلندا والنرويج وبلجيكا مباشرة في صندوق مجمع بخزينة وزارة المالية الفلسطينية، وتؤول الملكية الكاملة لهذه الأموال إلى وزارة التربية والتعليم، التي تقرر طرق وأوجه إنفاقه.
وقال أبو روزا أن "هذا مسار صغير نحو الاستقلال السياسي".
ولكن أحد كبار المسؤولين في الوزارة، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، يرى أن فكرة الاستقلال لا تزال غير واقعية. "ليست لدينا سيطرة على حدودنا، ولا الضرائب، والمنطقة (ج) بأكملها تخضع لسيطرة إسرائيل، فأي استقلال اقتصادي نتحدث عنه؟" مضيفاً أن السلطة الفلسطينية لم تنشأ لكي تصبح كياناً اجتماعياً يوفر الرواتب والخدمات للفلسطينيين، بل "كان هدفها سياسياً، ومشاكلنا أيضاً سياسية".
وأكد أن "المعونة لم تساعد على تحقيق أحلام الفلسطينيين".
وتجدر الإشارة إلى أن تقرير ديوان مراجعة حسابات الاتحاد الأوروبي (ECA) قد أظهر بعض الحالات الشاذة في تمويل الاتحاد الأوروبي للسلطة الفلسطينية في الأونة الأخيرة. وانتقد التقرير دفع الاتحاد الأوروبي لرواتب موظفي الخدمة المدنية الفلسطينيين في قطاع غزة "الذين لم يعودوا يعملون". واقترح التقرير وقف المساعدة المالية "وتوجيهها إلى الضفة الغربية". ومن الجدير بالذكر أن حماس، التي سيطرت على قطاع غزة في عام 2007، تصنف من قبل الاتحاد الأوروبي كجماعة إرهابية.
هل نساعد إسرائيل على مواصلة الاحتلال، أم أننا في الواقع نساعد الفلسطينيين على بناء الاستقلال؟
وهكذا فإن الاتحاد الأوروبي يواصل دعم مؤسسات السلطة الفلسطينية السابقة في قطاع غزة عن طريق دفع الرواتب، على الرغم من أنه لم يعد للسلطة الفلسطينية أي سيطرة على القطاع، ولكن التكلفة السياسية لوقف التمويل تعتبر فادحة.وخلال الفترة من 2008 إلى 2012، ارتفع متوسط عدد الموظفين المدنيين والمتقاعدين الذين كان الاتحاد الأوروبي يدفع جزءاً على الأقل من رواتبهم من 75,502 إلى 84,320 شخصاً، أي ما يقرب من نصف الموظفين المدنيين والمتقاعدين التابعين للسلطة الفلسطينية، والذين يبلغ عددهم 170,000 شخص.
وخلال الفترة ذاتها، ارتفع متوسط الأجور الشهرية للمستفيدين من معونة الاتحاد الأوروبي في السلطة الفلسطينية من 45.1 مليون يورو إلى 62.9 مليون يورو، بزيادة قدرها 39 بالمائة. ولكن في الوقت نفسه، انخفضت المساهمات في آلية بيغاس لموظفي الخدمة المدنية والمتقاعدين من 21.3 مليون يورو (47 بالمائة من إجمالي رواتب المستفيدين المؤهلين) في عام 2008 إلى 10.4 مليون يورو (16 بالمائة) في عام 2012، ويرجع ذلك أساساً إلى إنخفاض مساهمات بعض الجهات المانحة، مثل إسبانيا.
وتشير هذه الضغوط إلى خلق بيئة تمويل جديدة تجد فيها السلطة الفلسطينية صعوبة متزايدة في دفع الرواتب والمعاشات في الوقت المحدد.
كما تواجه وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) تحديات مماثلة، حيث تعاني هذا العام من عجز قدره 65 مليون دولار في ميزانيتها الأساسية، وتكافح للتكيف مع انخفاض التمويل الدولي. ويعتبر الاتحاد الأوروبي أكبر الجهات المانحة للأونروا.
وفي تصريح لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، قال علاء الترتير، مدير البرامج في شبكة السياسات الفلسطينية، أن "المعونة لم تساعد على تحقيق أحلام الفلسطينيين، ولم تؤد إلى التنمية المستدامة. لقد أصبح الاستقلال اليوم أبعد مما كان عليه قبل 20 عاماً".
وعلى الرغم من التناقضات التي تشوب سياسة المعونة التي يتبعها الاتحاد الأوروبي، فمن الواضح أنه من دون تلك المساعدات، سيتفاقم الوضع الإنساني في الأرض الفلسطينية المحتلة بشكل كبير.
وتساءل توماسو فابري، مدير مكتب منظمة أطباء بلا حدود في القدس، قائلاً: "إذا وصلنا إلى حالة لا تتوفر فيها المساعدات لموظفي السلطة الفلسطينية، فمن الذي سيسد هذه الفجوة؟ سيكون لذلك أثر إنساني وخيم".
من جهته، قال سعيد سمارة البالغ من العمر 49 عاماً، وهو مدرس في مدرسة ثانوية داخلية في رام الله وأحد المستفيدين من معونة الاتحاد الأوروبي المباشرة إلى السلطة الفلسطينية: "كمعلم، آمل أن تستمر هذه المساعدات، ولكن كمعلم أيضاً، ومن أجل مستقبل طلابي، أحتاج أيضاً إلى بصيص من الأمل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة".