"القيم المشتركة" وعملاء أصحاء في المستقبل الصورة: براد راغلز/فليكر |
كانت العلاقة بين الشركات التجارية والمؤسسات غير الربحية تقليدياً قائمة على الخصومة، وتتسم بانعدام الثقة بين الطرفين، اللذين يسعيان لتحقيق أهداف تبدو متناقضة: الأرباح من جهة، وحل مشاكل العالم من جهة أخرى. ولكن العديد من الجهات الفاعلة في القطاع الصحي تشهد الآن تحولاً في طريقة عمل الشركات التجارية والمنظمات غير الربحية والحكومات معاً.
ففي مناخ يتسم بالتقلص السريع في أموال الجهات المانحة، تلجأ الحكومات والمؤسسات غير الربحية بشكل متزايد إلى الاستعانة بالشركات التجارية التي تتوفر بها المهارات والأموال. وتعيد الشركات بدورها تقييم الفوائد الطويلة الأجل التي تحصدها من جهودها في مجالات العمل الخيري والمسؤولية الاجتماعية، وتجد السبل الملائمة لتوجيه ممارساتها التجارية الأساسية نحو المنافع الاجتماعية.
"ما نراه هو زيادة هائلة في الحوارات بين القطاعات والابتعاد عن الشعور بعدم الثقة وتبني مواقف أكثر انفتاحاً على التعاون،" كما أفادت بام بولتون، نائبة رئيس تحالف الأعمال العالمي في مجال الصحة الذي يتخذ من نيويورك مقراً له، وهو تحالف يضم أكثر من 200 شركة ويسعى إلى التصدي لمشاكل الصحة العالمية. وتمنح هذه المجموعة جوائز سنوية للشركات التي تنخرط في شراكات ناجحة مع الحكومات والمؤسسات غير الربحية في البلدان النامية.
وتقول بولتون أنها ترى تحولاً يحدث على كلا الجانبين، إذ تلجأ المنظمات غير الحكومية بشكل متزايد إلى الاستفادة من أصول القطاع الخاص بطريقة أكثر استراتيجية، ليس فقط للحصول على مساعدات مالية، ولكن للاستفادة من مهاراته التجارية ودهائه التسويقي، على سبيل المثال. كما تلحظ تغييراً جذرياً في كيفية نظر الشركات لاستثماراتها الاجتماعية؛ حيث يتجاوز الكثير منها مجرد وجود ذراع "المسؤولية الاجتماعية" المنفصلة عن تفاصيل أعمالها الفعلية.
وأضافت بولتون قائلة: "تاريخياً، كانت الشركات تستخدم استثماراتها الاجتماعية وجهودها الخيرية في المقام الأول للفوز برخصة اجتماعية وكسب تأييد المجتمعات التي تعمل بها ... لكي تبدو وكأنها شركات وطنية جيدة." ولكن الشركات تبتعد على نحو متزايد عن تبني "نهج خيري مصمم لاكتساب سمعة جيدة" وتسعى إلى تبني نهج يحتضن أنشطتها التجارية الأساسية، كما أشارت.
بدأ مايكل بورتر المدرس بمدرسة هارفارد للأعمال التعبير عن هذا النهج الجديد منذ بضع سنوات من خلال مفهوم "القيم المشتركة." وفي عام 2011، كتب ما يلي في مجلة هارفارد بيزنس ريفيو: "تم التخلي عن حل المشاكل الاجتماعية وتركها للحكومات والمنظمات غير الحكومية. وظهرت برامج مسؤولية الشركات - كرد فعل لضغوط خارجية - إلى حد كبير لتحسين سمعة الشركات وبات يُنظر إليها على أنها نفقات ضرورية. وينظر الكثيرون إلى أي شيء أكثر من ذلك على أنه استخدام غير مسؤول لأموال المساهمين".
وأضاف أن النظر إلى الكفاءة الاقتصادية والتقدم الاجتماعي كهدفين متناقضين منع الشركات التجارية - التي تعد "وسيلة لا مثيل لها لتلبية الاحتياجات البشرية، وتحسين الكفاءة، وخلق فرص العمل وبناء الثروات"، من وجهة نظره - من تسخير إمكاناتها لمعالجة مشاكل المجتمع. وقال أيضاً أن "الشركات التي تعمل بصفتها مؤسسات تجارية، وليس كجهات مانحة خيرية، هي أقوى جهة تستطيع التصدي للقضايا الملحة التي نواجهها".
توحيد الصفوف
والآن، هناك عدد متزايد من الشركات - من بينها جنرال إلكتريك، ويونيليفر، ونستله، وجونسون آند جونسون، وبيكتون ديكنسون، وبروكتر أند غامبل، ونوفارتيس - تتبنى مفهوم "القيم المشتركة" وتوحد قواها مع المنظمات غير الحكومية والجهات المانحة والحكومات، في كثير من الأحيان، لتحسين تقديم الخدمات الصحية. وعلى الرغم من أن هذه الشركات لم تتخل عن تركيزها على دافع الربح، إلا أنها تتبنى نظرة طويلة المدى تفيد بأن المجتمع الأكثر صحة والأكثر مهارة وتعليماً سوف يكون في نهاية المطاف أكثر فائدة من الأرباح السريعة، بحسب ليث غرينسديل، ممثلة القطاع الخاص في تحالف الصحة المختص بالأهداف الإنمائية للألفية.
وكان لشركة يونيليفر السبق في تبني نهج "القيم المشتركة" قبل خمس سنوات عندما دعمت برنامج غسل اليدين التابع لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف). وعن طريق تسويق صابون لايف بوي الخاص بها، عرضت شركة يونيليفر إعلانات متطورة عن حملة غسل اليدين. كما تقوم نستله - التي ظلت مذمومة لفترة طويلة بسبب تقويضها للرضاعة الطبيعية عن طريق الترويج المكثف لحليب الأطفال الذي تنتجه - بانتاج منتجات غذائية مدعمة بالمغذيات الدقيقة منخفضة التكلفة. أما شركة بروكتر أند غامبل فتشجع وصول المياه النظيفة للأطفال، جنباً إلى جنب مع الإعلان عن أقراص تنقية المياه التي تنتجها. وقد استخدمت شركة بيكتون ديكنسون تكنولوجيا طبية جديدة لصنع محاقن ذاتية التدمير. وطورت شركة فيسترغارد-فراندسين السويسرية ناموسيات معالجة بمبيدات حشرات ومرشحات مياه محمولة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن اتفاق التعدين من أجل صحة الطفل هي مبادرة متعددة الشركاء تشجع الصناعات الاستخراجية والتعدينية على لعب دور أكبر في مجال صحة الطفل في المجتمعات التي تعمل فيها. على سبيل المثال، تعمل شركة تيك ريسورسز (Teck Resources)، من خلال شراكتها مع اليونيسف، على توفير الزنك ومحلول الإماهة الفموية لمكافحة الإسهال بين الأطفال الصغار في الهند، حيث يعتبر هذا المرض هو السبب الرئيسي للوفاة بين الأطفال دون سن الخامسة.
من جانبها، قالت غرينسديل أن هناك إدراكاً بأن مبيعات المنتجات ترتبط في نهاية المطاف بالتنمية الاقتصادية للمجتمع بأكمله.
علاقات معقدة
وتضرب غرينسديل مثالاً بالهند كدولة يمر قطاعها الخاص بتحول كبير في طريقة رؤيته لأهداف الصحة العامة. وبفضل الدعم الحكومي الذي يبلغ 30 دولاراً للشخص الواحد، تلد النساء الفقيرات الآن في المستشفيات الخاصة في غوجارات. وقد أدى هذا إلى "انخفاض مذهل" في الوفيات النفاسية، حسبما ذكرت غرينسديل.
ولكن التفاؤل بمشاركة القطاع الخاص في تقديم الرعاية الصحية العامة في ذلك البلد لا يعم الجميع. آنا ماريوت، مستشارة السياسة الصحية في منظمة أوكسفام، تشير إلى أدلة على رفض المستشفيات الخاصة قبول النساء اللاتي يواجهن ولادات معقدة. وتقول أنه في بعض الحالات، تم تشجيع النساء على إجراء عملية استئصال الرحم بدون داع في مرافق الرعاية الصحية الخاصة لجمع المزيد من الأرباح. وللتدليل على ذلك، تستشهد أيضاً بمخطط أعطت الحكومة بموجبه الأرض مجاناً للمستشفيات الخاصة بشرط توفير الرعاية للمرضى ذوي الدخل المنخفض، ولكن الحكومة اشتكت في وقت لاحق من أن المستشفيات الخاصة لم تفي بالتزاماتها في هذه الصفقة.
وفي هذا السياق، يوضح المثال الهندي التعقيدات الكامنة في الشراكات بين القطاعين العام والخاص. وتشير ماريوت إلى "كثرة الحديث" عن فوائد مثل هذه الشراكات الخاصة خلال السنوات الخمس الماضية، ولكنها تقول أن الخطابات البلاغية التي تبشر "بالفوز لجميع الأطراف" لا تسمح بإجراء تحليل حقيقي " للمخاطر المحتملة - ناهيك عن الحقيقية - لهذا النوع من الشراكات".
وتابعت قائلة: "ينبغي علينا أن نكون واقعيين ونعرف أن القطاع الخاص يهدف إلى تحقيق الربح. سوف نراهم ينتقون بعناية مرضاهم أو أجزاءً من السوق من شأنها أن تجلب معظم الأرباح، ولكن هذه الأجزاء ليست دائماً هي التي تشتد بها الحاجة".
وقالت، على سبيل المثال، أن التوسع في شركات الرعاية الصحية الخاصة في جنوب أفريقيا، مثل نتكير (Netcare)، لتعمل أجزاء أخرى من أفريقيا كجزء من مبادرة مدعومة من قبل البنك الدولي، يؤدي إلى تآكل فرص الفقراء في الحصول على الرعاية الصحية واستقطاب المتخصصين في الرعاية الصحية من القطاع العام. وأشارت إلى وجود مشكلة أخرى تتمثل في أن الدول الفقيرة عادة ما تفتقر إلى القدرة على تنظيم أنشطة القطاع الخاص بشكل قانوني.
وفي سياق متصل، قالت ماريوت أن أوكسفام تدعم نهج "القيم المشتركة" الذي يبعد الشركات التجارية عن "الإجراءات الشكلية"، وتعميم مسؤولياتها لتغطية كافة أعمالها الأساسية، "طالما أنها تستخدم ممارسات عادلة ومنصفة وطالما لا توجد دوافع خفية. ينبغي علينا التأكد من أنها تعني ما تقول وأن هذه الممارسات تساهم في الصالح العام بمعناه الأكثر شمولاً". وقالت أيضاً أنه يجب أن يتم تقييم كل مبادرة على أساس كل حالة على حدة.
ينبغي علينا أن نكون واقعيين ونعرف أن القطاع الخاص يهدف إلى تحقيق الربح. سوف نراهم ينتقون بعناية مرضاهم أو أجزاء من السوق من شأنها أن تجلب معظم الأرباح، ولكن هذه الأجزاء ليست دائماً هي التي تشتد بها الحاجةكما قالت ماريوت أن المنظمات غير الحكومية تتبنى وجهات نظر متباينة على نطاق واسع تجاه الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وأن "الخطاب المتفائل" يطغي على الأصوات التي تدعو إلى المزيد من النقاش المتوازن حول المخاطر.
مع ذلك، تعتقد غرينسديل أن هناك فجوة بين الأجيال؛ وتؤكد أن الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 45 سنة يميلون إلى الاعتقاد بوجود انقسام بين المؤسسات غير الربحية والشركات التجارية. وأوضحت أن "أي شركة تعتقد أنها تحاول بيعهم شيئاً تقع في دائرة الشبهة"، في حين يرى جيل الشباب أن "الدافع الخفي المتمثل في الربح هو جزء من الحل".
"إن أصحاب المشاريع الاجتماعية من الشباب المتخرج حديثاً من الجامعة لا يرى نفس الانقسامات بين القطاعين العام والخاص. إنهم لا يخجلون من كسب المال، لكنهم يريدون تحويل جهودهم نحو المنتجات التي سيستفيد منها الفقراء وترعى أهداف الصحة العامة،" كما أفادت.
الاستدامة
وترى غرينسديل أيضاً أنه عندما تدرك المؤسسات غير الربحية أنها عندما تشارك شركة وتباع منتجاتها، يصبح البرنامج في كثير من الأحيان أكثر استدامة مما لو كان يعتمد كلياً على أموال الجهات المانحة.
وحذرت من أنه "في نهاية المطاف، تجف الأموال وتحدث انتكاسات في كثير من الأحيان." وتعاني المنظمات غير الحكومية من آسيا إلى أفريقيا إلى أمريكا الجنوبية بسبب تناقص أموال الجهات المانحة في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية التي بدأت في عام 2008. ويعمل العديد منها بعدد قليل من الموظفين، وفي بعض الحالات، تواجه خطر الإغلاق.
من جهتها، أشارت ماري بيث باورز، مديرة حملة بقاء الطفل في منظمة إنقاذ الطفولة، أن العديد من المنظمات غير الربحية لديها الآن "علاقة أكبر" مع الشركات. وترى أن هناك رغبة متزايدة للعمل بشكل تعاوني بسبب ندرة الموارد. كما تعتقد أن تأثير فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز على الأمور التي تُعد بيت القصيد بالنسبة للشركات أصبح بمثابة نقطة تحول في عالم الأعمال التجارية، وجعل تلك الشركات تفكر أكثر في دورها في مجال الصحة العامة.
"نحن نشهد بشكل متزايد شراكات أكثر بكثير في تطوير الأفكار حول ما يمكننا القيام به معاً. وهناك رغبة جديدة من جانب منظومة الأمم المتحدة والعديد من الحكومات في أن ترى دوراً تعاونياً للشركات التجارية، في حين كانت هناك شكوك كثيرة حول هذا الموضوع قبل 10 سنوات،" كما أفادت.
وأشارت أيضاً إلى أن حركة المنظمات غير الربحية الأمريكية في هذا الاتجاه ربما تكون أسرع من نظرائها في بلدان أخرى، ويرجع ذلك جزئياً إلى إرث نظام الرعاية الصحية الخاص وانتشار تسويق الأدوية في ذلك البلد.
ومن الجدير بالذكر أن العديد من الشركات توفر الآن دورات تدريبية على تنمية المهارات وإدارة الرعاية الصحية للعاملين على الخطوط الأمامية في مجال الرعاية الصحية الذين قد يبيعون أو يستهلكون منتجاتها في يوم من الأيام، ولكنهم الآن يقدمون الرعاية الأساسية للأسر. كما تقدم شركات أخرى، مثل ميرك وغلاكسو سميث كلاين بعض المنح لتدريب العاملين في مجال الصحة. وقالت باورز أن "هذه المساعي لا تهدف إلى الترويج لمنتجات هذه الشركات، ولكنها بالغة الأهمية بالنسبة للرعاية الصحية الأولية".
ولكن البعض يعبرون عن قلقهم إزاء "الدوافع الخفية" المحتملة و"الأجندات المشتركة" لمبادرات كهذه المبادرة. وحذرت ماريوت من أنه "إذا أصبح الدافع منها في يوم ما هو بيع منتجاتها أو التلاعب بالتحيز تجاه منتجاتها أثناء تدريب المهنيين، سنكون قلقين جداً بهذا الشأن".
وبالتأكيد، عندما يجتمع الطرفان معاً، يجب عليهما التعامل مع ثقافات مختلفة للغاية. وتعتقد باورز أن مشاركة القطاع الخاص يمكن أن تحسن المعايير وتحفز الحكومات على "تحسين أدائها هي أيضاً". كما تؤكد بولتون أن الحكومات عادة ما تعمل بوتيرة أبطأ من الشركات، وتشير إلى أن الشراكات بين المنظمات غير الحكومية والحكومات والقطاع الخاص تحقق نجاحاً أكبر عندما يكون هناك اعتراف بوجود هذه الاختلافات التنظيمية. وهذا يؤدي إلى "مستوى أعمق من الانخراط،" كما أفادت.
تشعر بولتون بالتفاؤل بأن التعاون أصبح هو الأمر الطبيعي الجديد. وفي الوقت نفسه، عندما يتعلق الأمر بالبرامج الخيرية وبرامج مسؤولية الشركات مقابل القيم المشتركة، يظهر التباين بين الشركات، ويتبنى بعضها مزيجاً من الاثنين. وكما يبررون تنويع محافظهم الاستثمارية، يقومون بتنويع الاستثمار الاجتماعي أيضاً.
وأضافت بولتون أن بعض القضايا الصحية والاجتماعية لا تصلح للنهج القائم على حركة السوق، ولكن "هناك منطقة رمادية تكون الشركات على أهبة الاستعداد للدخول إليها وتحمل المخاطر. إنها تتوقع أن هذا يمكن أن يُترجم إلى عمل تجاري بحت على المدى الطويل".
الفساد
ولكن هناك دائماً خطر يتمثل في أن هذه الشراكات - التي تُقدر بملايين الدولارات في كثير من الأحيان - يمكن أن يشوبها الفساد. فعلى سبيل المثال، أصدر الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا في شهر نوفمبر الماضي قراراً بإيقاف التعامل مؤقتاً مع شركتي فيسترغارد-فراندسين وسوميتومو كيميكال سنغافورة اللتين توردان الناموسيات، بعد أن اعترف بعض موظفيهما بدفع رشاوى لمسؤولي الصحة في كمبوديا. وحيث أن الشركتان كانتا توردان 80 بالمائة من الناموسيات المشتراة من قبل الصندوق، فقد أثيرت مخاوف حول حدوث نقص في الإمدادات خلال العام القادم.
وقال ميكيل فيسترغارد-فراندسين، الرئيس التنفيذي للشركة والوجه الأبرز لمبادرة "القيم المشتركة"، أنه "أصيب بصدمة" من جراء تصرفات الموظفين الفاسدين، الذين لم يعودوا يعملون لدى الشركة.