طرابلس, سبتمبر 2013 (إيرين).
لا تزال المصاعد التي تقف بين الطوابق وصوت المفاتيح وهي تغلق الأبواب تتسبب في تسارع ضربات قلب علي العكرمي بعد أن انتهت الثلاثين عاماً التي قضاها كسجين سياسي في سجن بوسليم سيء السمعة في ليبيا بإصابته بالخوف من الأماكن المغلقة. كما يمتلئ جسده بالكثير من الندوب. فقد تعرض العكرمي للضرب والتعذيب بعد اعتقاله بتهمة انتمائه إلى حزب سياسي إسلامي في عام 1973، على الرغم من أن عمره آنذاك لم يكن يتجاوز الـ 22 عاماً، وذلك خلال عملية تطهير البلاد من المثقفين والإسلاميين وغيرهم التي نفذها الزعيم الليبي السابق معمر القذافي.
وقد استخدم سجانو العكرمي شفرات الحلاقة لجرح جسده ثم فركوا تلك الجروح بالملح. كما اضطر وغيره من السجناء في سجن طرابلس للاستماع إلى تسجيلات لخطب القذافي لعدة ساعات.
"كانوا يشغلونها طوال اليوم، ثم يتبعونها بالأغاني الثورية حتى فقد بعض السجناء عقولهم،" كما قال العكرمي، الذي أضاف أنه من أجل الحفاظ على عقله، كان يدرس الفرنسية لمعتقل إيطالي، وفي المقابل علمه ذلك الرجل التحدث باللغة الإيطالية.
وتجدر الإشارة إلى أن العكرمي، الذي أفرج عنه في عام 2002، هو السجين السياسي الذي قضى ثاني أطول مدة في السجون الليبية. ومن المقرر أن يمثل أحد الأشخاص الذين يلومهم على محنته أمام محكمة طرابلس يوم 19 سبتمبر.
يواجه عبد الله السنوسي، الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الليبية وزوج أخت زوجة القذافي، اتهامات بارتكاب جرائم في سجن بوسليم، من بينها تدبير مذبحة راح ضحيتها أكثر من 1,200 سجين في عام 1996. ومن المتوقع أن ينضم إليه في قفص الاتهام حوالي 21 آخرين من المقربين من القذافي، من بينهم سيف الإسلام، نجل القذافي. (لقي معمر القذافي مصرعه في عام 2011.)
وستكون جلسة الاستماع مطابقة للقواعد الإدارية تماماً؛ إذ سيقوم المدعون بتسليم تفاصيل التحقيق بشكل رسمي إلى دائرة ما قبل المحاكمة، حيث سيفحص القضاة الأدلة لأول مرة ويقررون ما إذا كانت القضية تستحق التحول إلى محاكمة.
والجدير بالذكر أن التهم الرسمية ليست واضحة حتى الآن، ولكن من المرجح أن تشمل القتل والاضطهاد والتحريض على الاغتصاب والتحريض على قتل المدنيين والمتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع خلال مظاهرات الربيع العربي في ليبيا. وقد تشمل الاتهامات الأخرى الفساد المالي وسوء استخدام الأموال العامة وجلب المرتزقة من الخارج.
المحاكم تتصارع بشأن المحاكمة
وسوف تحظى الجلسة باهتمام وقلق من قبل المدعين في المحكمة الجنائية الدولية (ICC) في لاهاي، الذين يتهمون السنوسي وسيف الإسلام القذافي بقتل واضطهاد المتظاهرين في طرابلس والزاوية وبنغازي ومصراتة وأماكن أخرى في ليبيا خلال ثورة فبراير 2011.
والمعروف أن المحكمة الجنائية الدولية تأسست لمقاضاة المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في البلدان التي تكون فيها الدولة غير راغبة أو غير قادرة على ملاحقتهم، لكن ليبيا تصر على أنها تستطيع تنفيذ محاكمات عادلة وطعنت في مقبولية نظر المحكمة الجنائية الدولية في هذه القضية.
غير أن المحكمة لا توافق على ذلك. وبعد الكثير من المشاحنات القانونية، رفض القضاة في شهر مايو الماضي محاولة ليبيا للاحتفاظ بالقذافي، ولكنهم لم يتخذوا قراراً نهائياً بشأن السنوسي حتى الآن.
وعلى الرغم من أن ليبيا ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، فقد تدخلت المحكمة بناءً على طلب من مجلس الأمن الدولي.
ولكن من غير المرجح أن يمثل أي من الرجلين أمام المحكمة في لاهاي في المستقبل القريب.
وأوضحت حنان صلاح، الباحثة في الشؤون الليبية في منظمة هيومن رايتس ووتش أن "ليبيا ذكرت بوضوح أنها لن تسلمهما".
وأضافت أنه "من المقلق جداً أن نسمعهم يقولون علناً أنهم لن يسلموهما إلى المحكمة الجنائية الدولية تحت أي ظرف من الظروف، رغم أنهم ليسوا قادرين على إثبات قدرتهم ورغبتهم في إجراء محاكمة عادلة. إن ليبيا ملزمة بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، ورفضها القيام بذلك يعد مسألة خطيرة للغاية".
رأي عام
وفي شوارع طرابلس، حيث يعاني السكان من انقطاع الكهرباء المتكرر وانقطاع إمدادات المياه وتزايد انعدام الأمن الناجم عن خروج الميليشيات عن نطاق السيطرة، يقول أحد السكان أنه يشك في أن الحكومة ستحاول استعداء السكان الذين يشعرون بالضجر أكثر من ذلك عن طريق تسليم القذافي والسنوسي.
لديه الحق في الحصول على محاكمة عادلة، ولكن عليه أن يدفع ثمن ما ارتكبه من جرائم. أسامح بعض الحراس كالحارس الذي ضربني، ولكن هناك بعض الجرائم التي لا يمكن أن تغتفر
وقال عمر المسماري، وهو صحفي من بنغازي: "من غير المرجح أن تسلمهما الحكومة إلى لاهاي لأنها بالفعل تقع تحت ضغط شديد من الشارع. سوف يصاب الشعب الليبي بخيبة أمل إذا ما أرسلوهما إلى المحكمة الجنائية الدولية لأن الناس يريدون الانتقام". ويتفق معه طارق المجريسي محلل الشؤون السياسية الليبي، الذي يرى أن الرأي العام يفضل محاكمة القذافي والسنوسي في ليبيا، حيث سيتم إعدامهما إذا تيقنت المحكمة من أنهما مذنبان.
وأضاف المجريسي أن "الجميع سيشتاطون غضباً إذا تم تسليمهما إلى لاهاي، وسيضيع ما تبقى لدى الناس من أمل في الحكومة، وسوف يتهمهم الشعب بالخنوع في مواجهة المجتمع الدولي".
"الانطباع السائد هو أن المحكمة الجنائية الدولية ليست محكمة حقيقية، وأنهما سيقضيان ثماني سنوات في هذه المحاكمة، ثم تتم إدانتهما بارتكاب جرائم ضد الأجانب، وليس الليبيين، ثم يجلسان في زنزانة فخمة،" كما أفاد.
وفي السياق نفسه، يريد العكرمي، الذي يقول أنه سمع زملاءه السجناء يتعرضون للقتل بوحشية خلال مجزرة بوسليم، محاكمة محلية للسنوسي.
وأضاف قائلاً: "باعتباري ضحية، أفضل أن يحاكم هذا الرجل في ليبيا ... ينبغي أن يتمتع بكافة وسائل الدفاع عن نفسه. يجب أن يكون كل شيء واضحاً وعادلاً. لديه الحق في الحصول على محاكمة عادلة، ولكن عليه أن يدفع ثمن ما ارتكبه من جرائم. أسامح بعض الحراس كالحارس الذي ضربني، ولكن هناك بعض الجرائم التي لا يمكن أن تغتفر".
"محاكم اعتباطية"
وتحذر منظمة هيومن رايتس ووتش من أن النظام القضائي الليبي فوضوي ومفكك ومن أن القضاة والمحامين يواجهون تهديدات بشكل روتيني، مما يجعل الحصول على محاكمة عادلة أمراً مستحيلاً. وأستشهدت صلاح بالهجوم الأخير على محامية في مصراتة كانت تعمل في قضية اختطاف طفل.
وأضافت أن هذه المحامية "هوجمت بشراسة أمام المحكمة بعد أن غادرت الجلسة، كما اختطف والدها وتعرض للتعذيب".
وقد التقت صلاح مع موالين للقذافي تم سجنهم بعد سقوط طرابلس، ولكنهم لم يروا أي محام أو يمثلوا أمام قاض حتى الآن.
كما أن سيف الإسلام القذافي نفسه معتقل منذ عامين في سجن الزنتان من دون محام. وتقول صلاح أنه من غير المرجح العثور على محام محلي على استعداد لتولي قضيته، طالما ظل في الزنتان، حيث تحتجزه مجموعة ميليشيا العجمي علي أحمد العتري، التي ألقت القبض عليه. وترفض هذه الميليشيا تسليمه إلى طرابلس، ناهيك عن المحكمة الجنائية الدولية.
وفي قضية منفصلة، وجه العجمي علي أحمد العتري اتهاماً للقذافي بتهديد أمن الدولة عن طريق الالتقاء مع أربعة من ممثلي المحكمة الجنائية الدولية. وقد تأجلت هذه القضية عدة مرات لأن موظفي المحكمة الجنائية الدولية ليسوا متواجدين في البلاد للرد على التهم الموجهة إليهم.
ويشعر محللون مثل المجريسي بقلق شديد إزاء المشاكل التي تعرقل النظام القضائي في ليبيا، ويقولون أن حل هذه المشاكل ينبغي أن يكون من أولويات الدولة.
وأكد أن "سيادة القانون أمر ضروري. لا يمكن أن نرضى بهذه المحاكم الاعتباطية، التي تثبت أن هذه الثورة لا تختلف عن ثورة [معمر] القذافي".
أما في طرابلس، فلدى علي العكرمي أولويات أخرى. فقد أسس الجمعية الليبية لسجناء الرأي وعقد العزم على ضمان ألا ينسى جيل الشباب ما حدث في أماكن مثل بوسليم. كما أنه يصطحب الزوار، بما في ذلك ابنته الصغيرة، إلى السجن لشرح ما حدث هناك.
وعن ذلك قال، "نريد أن نعلمهم عن الثمن الذي دفعناه وأنهم يجب أن يتولوا حماية الثورة. من السهل تدمير نظام حاكم، ولكن من الصعب بناء آخر. ينبغي علينا أن نبذل قصارى جهدنا من أجل تحقيق المصالحة، ولكن لا أحد في ليبيا يغفر للسنوسي. كيف يمكنك أن تطلب من الأمهات اللائي فقدن أبناءهن أن يغفرن له؟